د. عوض الله محمد عوض الله
المدرسة عالم جديد يضيف الكثير، بل هو الذي يشكل الإنسان في مراحل تكوينه العلمي، وإعداده وتسليحه بسلاح العلم الذي يجهزه بالمهنة التي سيكسب منها عيشه، ويزوده بالمعرفة التي هي تنوير العقل وتهذيبه وصقله، بما يقدم له من علوم، إلى جانب تعلمه الانضباط في السلوك، إلى جانب تعزيز القيم التي اكتسبها من بيته وأسرته، وزيادة معرفته بالكثير من الأمور المهمة جدا في حياته، ففي المدارس يتعلم الإنسان الانضباط ومعانيه وأهميته وكيفية ممارسته، فالتلميذ الصغير ومنذ السنة الأولى في مدرسته يعرف الانضباط في الوقت: وقت الحضور للمدرسة، والوقت المحدد للحصص الدراسية، ووقت الفسحة، ووقت الرياضة والألعاب، ووقت الانصراف، والعطلة الأسبوعية، وعطلة نصف السنة وإجازة نهاية العام الدراسي، والانتقال من فصل إلى الفصل الذي يليه بعد النجاح في امتحان نهاية العام، إلى غير هذا من الأمور التربوية والتعليمية، التي تحدث في كل البلاد، ولجميع الأجيال،
حيث تتم كل هذه الأشياء بانضباط وصرامة لا تتغير كما أنه يتعلم التخصص، فهو يدرس اللغة والدين والرياضيات والجغرافيا والعلوم من مدرسين متعددين، بما يركز في ذهنه الفصل بين هذا العلم وذاك، كما أنه يتعلم أن هذا الدفتر خاص بالحساب، وهذا دفتر أو كراس الرسم، وذاك لكتابة الحروف الأبجدية، كما أنه يتعلم التفريق بين كتاب التاريخ وكتاب الأناشيد بما يرسخ في ذهنه التفريق بين المعرف التي يتلقاها، إنه يتعلم التخصص، من المدرسة، وفيها يتعلم التلميذ معنى التميز، منذ يومه الأول عندما يرتدي الزي المدرسي، فيدرك أن عالم المدرسة يختلف عن عالم البيت، وأن محيطها لا يشبه محيط الدار، بل هو عالم له تقاليده الخاصة، بدايتها هذا الزي الجديد المنتظم، وهذه الحال من النظافة والترتيب التي يجب أن يكون عليها. كما أن عالم المدرسة يختلف تماما عن ما ألفه في بيت أسرته فهو هنا سيتعامل مع أناس مختلفين، سواء من معلميه أو من أقرانه، وأن التصرف مع هؤلاء يتطلب نظاما خاصا في السلوك، وأن أسوار المدرسة تحتضن في داخلها عالما آخر، أكثر انضباطا وصرامة من ما هو موجود في بيته، ومن هنا تكون التجربة شاقة على التلميذ وهو يدخل المدرسة لأول مرة، فيبكي أغلب الأطفال في ذلك اليوم، مما جعل أغلبية المدارس تخص ذلك اليوم بتقاليد تربوية تطمئن هذا الزائر الجديد الذي هجر أمه وبيته وبيئته التي لم يفارقها إلا في ذلك اليوم و إلى عالم جديد ومجهول، بل إنه قد يحس بالتوجس من هذه الأعداد الكثيرة من الناس والأطفال اللذين يتزاحمون على مداخل المدرسة ومن ثم ينتشرون بين فصولها وممراتها وميادينها، والجلبة والضوضاء والضجيج التي يحدثونها، وهو الذي تعوّد على الحياة في بيت صغير هادئ ومع عدد محدود من البشر هم أقرب الناس إليه، أما اللذين يراهم الآن فجلهم ـ إن لم يكن كلهم ــ غريبٌ عنه.
عندما نسترجع الماضي، ونستذكر أيام المدرسة الأولية، تتداخل صور شتى، وقد أفضت في التفصيل عن هذا في كتاب وافي عن مدرسة السريحة الأولية، تلك الدار الأثيرة التي كانت محطة الانطلاق إلى هذا العالم المعرفي الواسع، فمن هنا تعلمنا فك الخط والكتابة، ومن هنا بدأت مسيرة محببة إلى النفس، ووراء حجب الأيام المتتالية والسنين المتراكمة، تلمع كبرق السماء الملبدة بالغيوم، صور شتى فيها جمال، وفيها حمدٌ وفيها عرفان، أما الجمال، فجمال المعرفة، وأما الحمد فلله الذي”علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم” وأما العرفان فللمدرسين اللذين درسونا في تلك الدار: محمد خليل شريف، ومحمد عثمان ساتي (مديران أو ناظران) وأحمد مدثر الفكي البشير، والشيخ حسن علي، وعمر فضل الله، وعبد الرزاق فضل المولى، والتهامي عبد الباقي، وعثمان أحمد الفيل، والصديق ضحوي وغيرهم، من معلمين كرام، أرى أن واجب ذكرهم وشكرهم مفروض على كل تلميذ، حتى وإن شاخ به العمر، وتباعد المكان والزمان بينه وبينهم، بحكم تصاريف القدر، فلابد من رفع ذكرهم والثناء عليهم والدعاء لهم، فكم من معلم رفع هذه الشعلة الوضاءة وأنار تلك العقول الغضة، وافترع أمامهم دروب المعرفة، ، فمن هنا وبعد فك الخط أطلينا على ثقافة هذا العالم، بما قرأناه من كتب وبحوث وصحف ومجلات، وبما تراكم لدينا من معارف في المراحل الأعلى حتى الدراسات العليا فوق الجامعية، والفضل في ذلك لله أولا ثم لهذه البدايات الصلبة في هذه المدرسة الحبيبة والعريقة التي تأسست في أربعينيات القرن الماضي، وهذا الأمر ينطبق على كل طلبة العلم اللذين تدرجوا في سلم التعليم في كل العالم، فالبداية الراسخة هي القائد إلى النجاح، وإن كانت المعرفة بحراً بلا ساحل، ولا يمكن لأحد أن يقول إنه وصل إلى نهاية المعرفة، واكتفى من العلوم، وحصل على ما يطمح إليه من معارف، لأن العلوم تتجدد، والمعارف تتوسع، والرغبة في النهل من هذا المعين تتسع باتساع تلك المعارف المتباينة.
ويبقى لأهل السريحة مكانهم الكبير في النفوس الغضة لرعايتهم السامية، ولتشجيعهم لنا كلنا، وهم قوم ذو قلوب نقية، فلم يحسدوننا نحن المتفوقين من غير أبناء قريتهم، بل إنهم دفعونا للمزيد من التفوق بتشجيعهم النادر المثال، واعتقد أننا ما كنا سنلقى هذا الدعم لو كنا في غير هذه المدرسة، ومع أناس غير هؤلاء الطيبين.
في المدرسة الأولية تعلمنا الانضباط في الحضور والانصراف، وهذه التراتبية في النظام اليومي بالمدرسة، وابتداء اليوم الدراسي، وانتظام الحصص بجدول صارم، وقبل ذلك الاهتمام بالنظافة الشخصية: نظافة الجسم والثياب، وتقليم الأظافر، وانتظام فسحة الفطور، والحضور المنضبط قبل جرس الصباح، بعد أداء الواجبات المدرسية، وحفظ السور الآيات القرآنية المقررة، وحصة الألعاب والرسم والتشكيل بالطين، حصص العلوم والتجارب العلمية الأولى، والجمعية الأدبية، والامتحانات ونتائجها، والفرحة العارمة بالتفوق والتميز والحفز والرعاية من المدرسين، والتشجيع من الوالدين، كل هذه مؤشرات على الحياة الجديدة التي يتشربها ويعايشها التلميذ الصغير، لتنمو مع تدرجه في العمر وفي المراحل الدراسية المختلفة، إنها الأساس القوي والقاعدة الصلبة التي انطلقنا منها بكل ثقة وقبل هذا وذاك بتوفيق الله نحو آفاق المعرفة الرحبة والمتسعة اتساع طموح قوي لا حدود لها.
عندما تسترجع الذاكرة ذلك الماضي، أجد صورا ممتدة إلى الآن من ذلك الماضي، قد تختلف التفاصيل، والتقاطيع الصغيرة، لكن الإيقاع نفسه أجده متجليا في صور عدة، وعندما أدخل في رحلة الماضي داخل أسوار المدرسة، أجدني أجول في علم أثير، عالم خيالي فانتازي مثالي، وكنت أتعجب من شغب الصغار، من التزامهم جانب النظام والتهذيب ولانضباط داخل أسوار المدرسة، غير أنهم ما أن يخرجوا من أسوارها حتى يعودوا ” للشيطنة” والقسوة مع بعضهم، وكان الأكثر صمتا داخل الفصول، هم الأعلى صوتا والأكثر قسوة، خارجها، وللأسف ما واصل الكثيرون من هؤلاء السير في درب التعليم، وهجروا الدراسة بعد تلك المرحلة المبكرة جدا من أعمارهم، وكانت النتيجة أنهم قنعوا بحياة بسيطة في قراهم الصغيرة، والقليلون هم اللذين ارتقوا في سلم التعليم، وتميزوا وتمايزوا، والحياة أجدها هنا قد ترجمت عمليا القول الشهير” لكل مجتهد نصيب”.
لم تكن المدرسة إلا حقلا لبذور مستقبلنا نحن اليافعين في تلك السنين الغضة، كانت أحلامنا واسعة، وكنا نتابع الدروس، وننشد الأناشيد ونغني الأغنيات، تعلمنا وتدربنا في الجمعية الأدبية، ومثلما نقرأ عن الكثيرين من المتعلمين، فمن هنا تكون البدايات، من هنا تكون الانطلاقة إلى آفاق الحياة الرحيبة. كنا نعشق الدروس، ونحب المدرسة، ولكننا كذلك كنا نحمل همَّ الامتحانات والاختبارات وهذا الاهتمام هو انعكاس جلي للشعور العميق بالمسئولية، وبمعنى النجاح وبقيمة أن تكون تلميذا متفوقا، لأن لك من زملائك من لا يقلون عنك ذكاء وشطارة، والطالب المتفوق غالبا ما يكون عرضة للغيرة من زملائه، وهو لابد أن يتعرض لاحتكاكهم واستفزاز بعضهم، وهذه سنة الحياة وطبيعتها وقد تكون صورة مصغرة” لدفع الله الناس بعضهم ببعض ” ليتعودوا على التنافسية في الحياة العريضة بعد ذلك. ورغم ذلك تتكون صداقات وثيقة، ومودة عامرة، بين أصحاب تلك القلوب اليانعة، صداقات وعلاقات ود وعفاف، ربما تمتد حتى آخر العمر، ولا أدري هل تولد عداوات بين الزملاء، فهذا ما لم أعايشه، لكن قد يكون هناك نوع من التحفظ في التعامل مع البعض مِن مَن كانوا يحملون غيرة من التلميذ المتفوق، ولا أقول حقدا أو كراهية، فهو يحاول بقد المستطاع تجنب من أذوه بكلمة في طفولته البريئة تلك.
في المدرسة تعلمنا قيمة الوقت، ومعنى أن تلتزم بالمواعيد وجداول الحصص وأداء الواجبات وحفظ القرآن والأناشيد وجداول الضرب، وكنا نحب حصة الأعمال حيث نخرج من الفصل إلى غرفة الأعمال وهي صالة مفتحة الجوانب لا توجد لها أبواب تلاصق سنة رابعة في الجزء الغربي من المدرسة، وكانت تلك الحصة للأعمال اليدوية، أي التشكيل بالطين، بينما تكون حصة الرسم بالألوان داخل الفصل، وتبدو حصة الأعمال محببة للتلاميذ لأنها تزيل عنهم رهبة وقيد الدرس الأكاديمي، الذي لابد من متابعته وفهمه ومذاكرته و(حفظه) ومن ثم الخضوع لامتحانه، وبعد سنين طويلة وعندما عملت معلما في المرحلة الابتدائي بالسعودية، لم أستغرب ميل الصغار(وكانوا من البدو) الميل لحصتي الرسم والرياضية، حيث كانوا يصيحون بكل براء:” نبي(نريد) رياضة، نبي رياضة.!
استهوتنا في مدرسة السريحة الأولية كذلك حصة الجغرافيا في الصف الثاني، عندما كنا نقوم بزيارة لمعالم القرية، وأذكر زيارتنا لدكان عبد الله الجاك، وزيارتنا للنور الترزي، وكلاهما من (ودراوة)، وهي مدينة اشتهر أهلها بالتجارة. ولا أدري هل بقي دكان (عبد الله الجاك) أم اندثر مع تطور الحياة، وإزالة الكثير من المباني، وتغيّر الكثير من المعالم، خاصة بعد أن رحل(عبد الله الجاك) من السريحة. والشاهد أنني فصلت الكثير عن ذلك الدكان الشامخ الباذخ في ذلك الأوان، فيما كتبته عن(مدرسة السريحة) في بحث منفصل. فدكان(عبد الله الجاك) وفرن عم (أحمد اليماني)، وورشة (الحاج ود خوجلي) و(بيت المرشدات) وطاحونة (محمد خالد) والطاحونة الغربية، والبيارة ذات المروحة، من المعالم التي لا تنساها الذاكرة في السريحة في تلك الأيام الخوالي من ستينيات القرن العشرين.